عالم التقنية والابتكار
أراجيك

لماذا انقرضت الأعداد الحقيقية! (قصّة قصيرة: خيال علمي)

يُحكى أنّه في أواخر القرن الماضي عرّف أحد العلماء الأفذاذ مجموعة أعداد سمّاها الأعداد الواقعيّة تميّزت هذه الأعداد بأنّها لا تنقطع أبدًا فيستحيل أن تجد عددين إلا وبينهما عددٌ ثالث، ثمّ إذا نظرت إلى العددين الأول والثالث لرأيت عددًا رابعًا بينهما وهكذا إلى مالانهاية.

وبعد مرور عدة سنوات اكتشفت مجموعة أخرى من علماء تاريخ الرياضيّات أثناء التنقيب في مخطوطات إلكترونية مستعادة من وحدات تخزين وُجِدت في أحد المكتبات القديمة التي تعود للقرن الحادي والعشرين، حيث اكتشف هؤلاء العلماء أنّه في ذاك الوقت كان البشر قد عرّفوا مجموعة الأعداد الواقعيّة المستمرّة وكانت مستخدمةً بكثرة وكانوا يسمّونها الأعداد الحقيقيّة، لكن هذا الاكتشاف طرح تساؤلات أكثر من تلك التي حلّها، فطالما أنّ هذه الأعداد كانت معروفة، أين اختفت كلّ هذه القرون ولماذا اختفت؟ وهل يمكن لشيء بهذه الضخامة وهذه الروعة والانسيابيّة أن يختفي، ليُعاد اكتشافه فيما بعد!

خلال أشهر قليلة انفجر عدد الأبحاث والدراسات بهذا الشأن حتى باتت الصورة الآن كاملة وهي بهذه البساطة والشكل الآتيين:

في سنة 2020 اجتاح الكوكب وباءٌ قاتل أصاب ثلثي سكان الكوكب وكان يحصد الأرواح ببطءٍ نسبي، حيث كان عدد سكان الكوكب في هذه السنة قد وصل ذروته عبر كلّ العصور، فكانت الوفيات بالملايين، لكن عجز العلماء عن اكتشاف مضادٍ له أو علاج يخفف من حدّته سوى المسكّنات وما شابهها، وكان الحلّ الوحيد المخفّف لانتشار المرض هو التباعد بين البشر أنفسهم، فنجى من مارس التباعد وهلك من لم يتباعد، لكن بعد عامين انفجرت أعداد القتلى وعلى عكس ما كان يتوقّع الناس من أنّ مناعةً جماعية ستنشأ وينجو البشر، لكن حدث ما لم يكن متوقّعًا البتّة، وهو أنّ الوباء أصاب كل من لم يتباعد، وكان من بين أولئك الذين لم يتباعدوا -مجبرين- هم الأعداد الحقيقيّة، فمجموعة الأعداد الحقيقية تغطّي مستقيم الأعداد بأكمله ولا يوجد انقطاع فيه أبدًا، فأصيب أوّل ما أصيب عددُ يُدعى “باي” حيث أصيب هذا العدد لاحتكاكه الشديد بالمرضى والمصابين والأطباء والعلماء، فقد كان العلماء يعبّرون عن مدى تزايد انتشار الوباء بعدد رمزه R وهو اختصار كلمة Reproduction وتعني عدد الأشخاص الذين ينتقل إليهم المرض من شخص مصاب واحد بالمتوسّط، وكعادته في ذاك الزمن كان العدد π باي يظهر في كل مكان تقريبًا، ولسوء حظّه ولسوء حظّ البشرية قد ظهر في هذا المكان، وأصبح R= π فأصيب باي وأصيب كل من حوله من الأعداد وحدثت الكثير من التناقضات وحالات تُدعى في الرياضيات “حالات عدم التعيين”.

في الوقت الذي كان عدد الأعداد الحقيقية لا نهائيًا في أيّ مجالٍ مهما كان هذا المجال صغيرًا، فقد كان من المفروض أن تصبح الزيادة في الإصابات لانهائية بدورها فهنا لا يوجد عتبة تسطيح المنحنى الذي كان ينتظرها البشر، فنشأت الحالة الشهيرة من عدم التعيين وهي ∞-∞ “لانهاية – لانهاية” ويُقصد بحالة عدم التعيين أنها عملية حسابية يمكنك وضع أيّة نتيجة لها، مثلًا  ∞-∞=1 , ∞-∞=2 , ∞-∞=48 الخ، لأنّك لو جمعت أيًا من هذه الأعداد مع اللانهاية المطروحة ستحصل على اللانهاية المطروح منها وهكذا.

حالات عدم التعيين
حالات عدم التعيين

فالآن عدد الأعداد الحقيقية لانهائي وعدد الإصابات لانهائي، وعدد الوفيّات من بين المصابين أيضًا لانهائي -بالرغم من أنّه يشكل نسبةً ثابتة تقريبًا من عدد المصابين-، فهل ستنقرض الأعداد الحقيقية لأنّ عددًا لانهائيًا منها سيُصاب ومن ثمّ سيموت أم ستبقى الأعداد الحقيقية لأنّ عددًا لانهائيًا منها سيُشفى بعد إصابته إضافةً لعددٍ لانهائي من الأعداد التي لن تُصاب أصلًا إما لأسبابٍ تتعلّق بمناعتها الطبيعية في جيناتها أو لأسبابٍ تتعلّق بالصدفة البحتة حيث إنّها لم تقابل عددًا مصابًا، مثل الأعداد الأوّلية التي تكون أقلّ احتكاكًا بالأعداد الأخرى.

رغم اشتغال آلاف العلماء في ذاك الوقت بحلّ هذه المعضلات لكن لم يتوصّلوا لحلٍ لها، وأدركهم الوقت قبل حلّها فأُبيد تسعةُ أعشار البشر وانقرضت الأعداد الحقيقية ولم ينجُ من الانقراض إلًا مجموعةً جزئية منها هي الأعداد الصحيحة، وهكذا فقد أعيد بناء الحضارة الإنسانية وأصبح العام 2048 بمثابة العام الأخير في الفصل الأول من فصول الإنسانية.

استغرقت إعادة بناء الحضارة الإنسانية حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم عدة قرون لكنها كانت أقلّ مما استغرقته في الفصل الأوّل، ربّما لأنّ معدّل ذكاء البشر الجمعي كان قد وصل لمستويات مرتفعة جدًا مقارنةً بفجر الحضارة الإنسانية في الفصل الأول قبل اثني عشر ألف سنة، فرغم أنّنا بدأنا بدايةً جديدة إلّا أنّنا ورثنا أهمّ اختراعات أجدادنا وهي شبكة تواصل عالمية جعلت الكوكب كقرية على ضفاف نهر الفرات قبل 12 ألف سنة.

نُشرت هذه المقالة في أراجيك بتاريخ 2020/08/10

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى