أعلامتاريخكتب

لماذا ألّف الجاحظ كتاب البخلاء

وضع عمرو طعامه على شـاطئ النهر ليأكل مع نسمات الهواء المنعش في صيف البصرة، بعد يومٍ شـاقٍّ من نسخ الكتب فيسوق الورّاقين.
وما إن بَسْمَلَ ممسكًا أوّل لقـمة حتّى ظهر شيخٌ أمامه قائلاً:
– يا للفتى المسـكين.. هكذا تـجلـس وحيدًا دون مؤنس!
أجاب عمرو: تفضّل، فجلس الـشيخ دون تردّد وقال:
– أنا مشفقٌ عليك، تخيّل لو وقـفت لقمة من الطعام في حلقك، من سينقذك؟
فردّ عمرو: إنّي أتناول لقيـمات صغيرة وأمضغُـها جيّدًا، فهتف الشيخ:
– خطأٌ كبير، يجب أن لا تضـيع وقتًا طويلًا في الأكل، ويجـب أن تكبّر اللقمة هكذا (وقبض الشيـخ على لقمة كبيرة من الخبز وداخـلها قطعة كبيرة من اللحم وابتلعها)، ثمّ سـأل عمرًا: ماذا تعمل يا بني؟
ردّ عمرو: أعمل ناسخًا في سـوق الورّاقين، فقال الشيخ:
– إذن هذا هو سبب جحوظ عينـيك، وليس كما ظننتُ في البداية، أي لأني تناولت القليل من طعامك.
فقال عمرو بخجل: كلا يا سـيّدي، أنا مسرورٌ بجلوسك معي، فقال الشيخ:
– دعنـي أتأكّد (وقبض على لقمةٍ أكبر من الأولى مع قطعة لحمٍ أكبر وابتلعـها بسرعة)، وأردف قائلاً: من أين اشتريت هذا الخبز واللحم؟
أجاب عـمرو: من الحانوت في أوّل السوق، فقال الشيخ:
– كلا كـلا أنا متأكّد من طعم اللحم إنّه من الحانوت بجانب النهر.
فقال عـمرو: كلّ اللحم متشابه، لكن الشيخ قال بإصرار:
– كلا، لـكلّ واحد طعه الخاصّ، وأنا أفرّق بين الأنواع المختلفة، دعني أتأكّد، (وقـطع نصف رغيف مع قطعتي لحم ودسّهم في فمه) وقال: أنت على حق، إنّـها من الحانوت في أول السوق.
وأراد عمرو أن يـلحق ما تبقّى من الفتات لكن الشـيخ عاجله بالسؤال:
-لماذا تقطّب وجـهك هكذا؟ هل أنت حزين لأني جالستك؟
فردّ عمرو: كلا أنا سـعيدٌ جدًا، وقد خلقت ووجهي بهذا الشكل، فقال الشيخ:
– أنت غـير راضٍ لأنّي تذوّقت القليل فقط من طـعامك، دعني أتأكّد (وقبض عـلى ما تبقّى من اللحم وابتلعه بلقمة واحدة) وإذ بعمرو يصـرخ من الألـم، فهتف الشيخ:
– أرأيـت! أنت متألّم لأنّي تذوّقت طعامك.
فقال عمـرو ودموعه تقف في عينيه: أنت لم تتذوّقه، بل التهـمتَه كلّه.
فردّ عليـه الشيخ:
– بالعكـس، أنا خدمتك، لأنّك لو تناولت هذا الطعام فـسوف تُصاب بالسُمنـة، ويُصاب عقلك بالبلادة.
فقال عمـرو: لكنّك أكلت طعام يومي كله، فردّ الشيخ:
– لا تـنسَ أنّك أنتَ طلبت منّي أن أشاركك.
قال عـمرو: لكنّها كانت مجاملة، فأجاب الشيخ:
– وقد جـاملتك وعطّلتُ نفسـي لأؤنسـك، فيكون هذا جزائي وقد أفسدتَ غـدائي، تبًّا لك. وانصرف.

وكان تصرّف هذا الشيخ هو ما حفّز عمرو بن بحر الذي عُرِف فيما بعد بالجاحظ ليكتب كتابه الرائع “البخلاء”

من كتاب عظماء في طفولتهم لمحمد المنسي قنديل بتصرّف

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى