عالم التقنية والابتكار
الإحصاء

قانون الأعداد الكبيرة و استخدامه في توقع نتائج الانتخابات الأمريكية

المتهمين بأمور السياسة الدوليّة لابدّ وأن يكون لفت انتباههم التنافس فى السباق المؤهّل لانتخابات الرئاسة الأمريكيّة هذه الأيّام.  وقبل 8 سنوات تقريباً وتحديداً فى 4 نوفمبر عام 2008 لمع اسم إحصائي أمريكي اسمه نات سيلفر Nate Silver حيث استطاع توقّع نتيجة الانتخابات الأمريكية بشكل صحيح. حيث كانت توقعاته صحيحة فى 49 ولاية من الخمسين ولاية أمريكية. كم أنّه استطاع أيضاً توقّع نتيجة الـ 35 انتخاباً المؤهّلة لمجس الشيوخ فى الانتخابات التى كانت مقامة فى نفس الفترة.
إذا لم يكن لديك وقت كافٍ لقراءة المقال شاهد مقطع الفيديو في الأسفل وهو من دقيقة واحدة.

هل يعني هذا أنّ هناك طريقة رياضية تستطيع توقع نتيجة الانتخابات الأمريكية قبل حدوثها؟ بل لماذا الانتخابات الأمريكية فقط؟ فربما تستطيع تلك الطريقة أن تتوقع نتيجة أى أنتخابات قبل وقوعها؟! بل إنّ العنوان يوحي بشيء أكثر. فهل ربما نستطيع ان نطبق تلك القوانين على مواضيع غريبة عنا ونحن دخلاء عليها ومع ذلك نصل الى النتائج الصحيحة ؟ أو في الحد الأدني نصل الى نتائج مقبولة نستطيع ان نبنى عليها بشكل أمن؟ الاجابة على كل ماسبق هى نعم! بل أن هناك شئ غريب اخر. فهذه القوانين لا يستخدمها فقط غرباء الميدان بل ان المتخصصين فى مجال معين قد يتخلون عن قوانيهم الدقيقة والصحيحة والخاصة بمجالاتهم ليطبقوا تلك القوانين العامة اللتى لاتشترط معرفة متخصصة بالموضوع. بل وهناك شئ أغرب. فهذه الطرق تعطى نتائج أدق كلما زاد تعقيد المشكلة التى نبحث عن حل لها.

مثال آخر هو نظرية الكم وهى أدقّ نظرية عرفها الإنسان حتى الآن. وبدلالة هذه النظرية نستطيع أن نحسب التركيب الذرى لذرة الهيدروجين. التى هى أبسط الذرات الموجودة. فهى تتكون من بروتون واحد والكترون واحد. إذاً حل معادلات نظام كهذا ليس صعباً. لكن ماذا عن ذرة الصوديوم مثلاً؟ ذرة الصوديوم تتكون من 11 الكترون و 11 بروتون بالإضافة الى نيوترونات. ورغم ان هذا تعقيد بسيط نسبيا مقارنة بذرة الهيدروجين الا ان جميع اجهزة الكمببوتر مجتمعة لا تستطيع ان تحل معادلات الطيف الذري لذرة الصوديوم بشكل رياضي صارم صحيح 100%.  وهنا نلجأ الى وسائل رقمية تقريبية تعطينا نتائج عملية ممتازة. لكنها فى النهاية ليست الحل الرياضى الصارم الذى يتوافق مع المعادلات الموجودة.

وقانون الأعداد الكبيرة هو أحد تلك القوانين الرياضية العامة اللتى يمكن أن نستخدمها لأغراض مختلفة. وينسب هذا القانون لياكوب برنولى وهو مرة أخرى احد افراد عائلة برنولي السويسرية الشهيرة وهو عم نيكولاوس برنولي . ولهذا القانون صورتان: صورة ضعيفة وصورة قوية. وبغض النظر عن الفرق بين هاتين الصورتين فهما يحملان نفس الرسالة التى يمكن أن نعبّر عنها بطريقة غير رسمية على النحو التالي:

بالنسبة لأي قضية تتغير قيمها بشكل عشوائي فان نسبة تكرار هذه القيم في عينة عشوائية كبيرة يقترب من أحتمال ظهور هذه القيم فى المجموعة الأم.

واذا اردنا تطبيق هذا القانون في حالة الانتخابات فى الولايات المتحدة الأمريكية سنجد التالي:

لا يمكن ان نقول إن التصويت فى الولايات المتحدة الأمريكية هو عملية عشوائية بالمعنى الحرفى للكلمة. ففى النهاية لا يقوم كل ناخب بتحديد قراره بناء على قرعة. مع ذلك فبإمكاننا أن نعتبر نتيجة تصويت أي فرد هى عملية عشوائية بالنسبة لنا. وضع تحت بالنسبة لنا ألف خط. فهناك أكثر من 140 مليون أمريكى مسجلين وبإمكانهم الانتخاب. وفي نفس الوقت فإن نتيجة تصويت كل شخص تتوقف على المؤثرات التالية: من هم المرشحون الرئاسيون؟ وها هى شخصياتهم وآراؤهم؟. كيف كان أداء المرشحين الرئاسيين فى الحملات الانتخابية؟. كيف كانت التغطية الإعلامية للحملات الانتخابية؟. ماهى الدائرة المحيطة بالناخب من هم أصدقاؤه وزملاؤه فى العمل؟ وماهى آراؤهم؟. ثم الأهم من هو الشخص الناخب نفسه؟ وما هى فلسفته فى الحياة؟. بل كيف كان مزاجه النفسى يوم ذهب للانتخابات؟

كل هذه العوامل تتحكم فى اختيار الناخب. وهى عوامل متصارعة متداخلة. لا نعلم لأيها سوف تكون الغلبة في النهاية؟. وماهى نسبة توافر أي من هذه العوامل فى ناخب بعينه؟. ولذلك يمكننا أن نعتبر ان عملية الانتخاب فى المجمل كما لو كانت عملية عشوائية لأنه تتحكم فى نتيجتها عوامل كثيرة. وليس لعامل بعينه فيها اليد الطولى دائما.

إذاً لتوقع نتائج العملية الانتخابية علينا أن نجري استطلاع رأي على عينة عشوائية كبيرة. بالنسبة للصفة الأولى “عشوائية” فالأمر غني عن التعريف. فأنا لن أجري مثلاً استطلاعاً للرأي فى مقر الحزب الجمهوري الأمريكي ثم أتوقع أن نتيجة الاستطلاع  ستكون معبرة عن رأي الأمريكيين فى العموم. لكن لابد أن تكون العينة معبرة عن عموم الشعب.

لكن الصفة الثانية هى قلب موضوع وهي الأهم. وهى أن تكون العينة كبيرة. وفى الحقيقة هناك شيئاً سحرياً  يختبئ خلف هذه النقطة. فنحن هنا لا نشترط نسبة معينة بل عدداً كبيراً فقط. فمثلا فى حالة الانتخابات فإن عينة عشوائية مكونة من ألف شخص كافية لأن نحصل على نتيجة نسبة خطئها لا تتجاوز 3%. ولا يهمّ ما هو عدد الناخبين الفعليين فى المجموعة الأم. هل هو مئة ألف! أم مليون! أم مئة مليون! أم مئة مليار!. فقط عينة من 1000 إنسان تكفى بغض النظر عن سعة المجموعة الأم!!

وتطبيقات هذا القانون فى الحياة العملية عديدة جداً. مثلاً فى حالة شركات التأمين على حوادث السيارات. فإن شركة التأمين لاتعلم مسبقاً إذا كان العميل القادم سيتسبب في حادث أم لا. وإذا تسبب فى حادث فما هى قيمة الخسائر المتوقعة. لكن بأخذ عينة واسعة تستطيع شركات التأمين أن تحدد الخسارة المتوقعة فى المتوسط وبالتالى تحديد مكسبها وأتعابها. وأيضا فى ميدان صناعة الأدوية. تستخدم شركات صناعة الدواء هذا القانون لتحديد تأثير المادة الطبية الفعالة على المرضى بأخذ عينة مناسبة من المرضى. وكذلك فى مجال القياسات المعملية. حيث تنشأ العديد من الأخطاء البشرية أو أخطاء أجهزة القياس التى تؤدي في النهاية إلى نتيجة قياس غير حقيقية. لكن بعمل أكثر من تجربة قياس نستطيع أن نعادل هذه المؤثرات بدلالة بعضها. أيضاً فى ميدان الفلَك حيث تتكون المجرة الواحد من مئات مليارات النجوم. وبالطبع لا يمكن دراسة كل هذه النجوم بالتفصيل لنحصل على خواص المجرة. لكن بتطبيق تلك القوانين العامة.

لكن علينا أن نتنبه أنّ قانون الأعداد الكبيرة قانون عظيم جداً. لكنه أيضاً سلاح ذو حدين. فكثيراً ما يتورط حتى المتخصصون فى أخطاء مهنية فادحة عندما يتعلق الأمر بتحديد سعة العينة العشوائية. فهم لا يستخدمون القانون الإحصائي بل يلجؤون إلى الخبرة أو العرف أو الإحساس الداخلي. فتكون نتائج مصداقية التجربة أقل من 50%.

ومثل صارخ لهذا الخطأ دراسة خاصة قامت بها مؤسسة جيتس للأعمال الخيرية. وكانت الدراسة تهدف الى بحث أفضل السبل لاستثمار 1.7 مليار دولار لرفع مستوي التعليم فى المدارس. ووجدت الدراسة أن أفضل المدارس التى أعطت نتائج ممتازة كانت مدارس قليلة الطلاب. وطبعا ربما يبدو هذا الامر منطقيا وهناك سبب واضح فكلما قل عدد الطلاب فى المدرسة كلما كثر الاهتمام بهم وتركيز المعلمين عليهم. وقامت المؤسسة بانشاء مدارس قليلة العدد بل وفتت المدارس الكبيرة الخاصة بها الى مدارس أصغر حجما.

لكن للأسف كانت هذه النتيجة ترجع الى خطأ مهنى فى اجراء الاستبيان. فالمدراس القليلة الطلاب ليست بالضرورة هى الأفضل. بل هو مجرد خداع أرقام. فمثلا اذا فرضنا ان مدرسة لديها طالبين فقط ونجح هذان الطالبان فستكون نسبة النجاح فى هذه المدرسة هى 100%. بينما اذا رسب طالب واحد فقط ستنخفض النسبة الى 50%. فالعينات قليلة العدد تكون نتائجها حساسة جدا وبأكثر من المطلوب.

وإذا ما تم عمل إحصاء حول المدارس الأسوأ نتيجة لوجدنا أيضا أن المدارس قليلة العدد ستترأس القائمة! إذا فاذا كان هناك شيء ما يفسر الشيء وعكسه فهو لا يفسر أي شيء! ويجب التخلي عنه وإسقاطه من حسباتنا بالكلية.

المصدر روائع العلوم

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى