مقالاتي

مكالمة من أبي!

رنّ الهاتف وظهرَ رقمٌ غير معروف بالنسبة لي كأكثر المكالمات التي تردني، وعادتي -كأبي- أنّي لا أتجاهل أيّة مكالمةٍ فأنا لا أدري كم هي مهمّة تلك المكالمة التي سأتجاهلها ولن أكونَ قادرًا على تحمّل عبءَ ندمٍ آخر، لأنّ ندمي على تركي لأخي وعدم معانقته إلى الأبد في لقائي الأخير به لم ينتهِ حتى بعد ستّ سنواتٍ من استشهاده.

لم أُطِلِ النظر في الهاتف وفتحتُ الخطّ، قيل ادخل الجنّة، قلتُ يا ليت المكالمة لا تنتهي!

إنّه أبي، تجمّدتُ في مكاني وأنا أصغي إلى كلماته، لم أردّ متعمّدًا لكي يعيد إلقاء السلام، إنّها مكالمة مع السماء كيف لي أن ألوّثها بصوتي، لكنّه ما لبِث أن عرّفني بنفسه “أنا والد فراس” فرحّبتُ به لكنّي رفضتُ تصديقه وما زلتُ أصدّق عقلي وأتخيّل أنّه أبي، حاولت إطالة المكالمة قدر ما أستطيع قبل أن أهبط منها، لكن لكلّ شيء نهاية.

مضيتُ في طريقي وأنا أعيد في مخيّلتي حديثه رافضًا تصديق أنّه والد فراس، بل إنّه والدي، هذا صوته بالتأكيد لقد اختصّني بمكالمةٍ مباشرة بدل أنْ يزورني في المنام ككلّ الناس، إنّه يعلم أنّي منذ رحيله أجبرتُ نفسي على أعمالٍ فوق طاقتي كي أنام بلا تفكير وبلا ذكريّاتٍ على الوسادة قبل إغماض عينيّ، فأنا لم أعُد أطيق الذكريات، وعطّلتُ عن عمدٍ الأفكار التي تحاول أن تزورني في المنام، ربّما هو عاتبٌ عليّ لأنّي توقّفتُ عن الحديث مع عمّي الذي يملك صوتًا دافئًا كصوته، لأنّي أيضًا لا أستطيع سماعه دون حضور صورة أبي، في تلك اللحظة وصلتُ إلى مفترق الطريق الذي يتقاطع مع سكّة القطار حيث أمرّ كلّ يوم بجانب مراقب الطريق وحارس السكّة الذي ينظم مرور المشاة حفاظًا على سلامتهم وكنتُ دومًا أظنّه أبي أيضًا فقد كان حريصًا على المارّة كأنّه أبوهم جميعًا وكنتُ أُسَرّ عند مروري بجانبه وأشعر بأمانٍ كذاك الذي كنتُ أشعر به بجوار أبي، فأبتسمُ له وأتابع طريقي، إلا اليوم فقد كنتُ منفعلاً وألقيت عليه السلام فردّ بصوتٍ غريب كما أنّه كان باللغة التركيّة! يا إلهي ماذا فعلت؟ لم أعد أشعر بالأمان، هذا ليس والدي! إنّ صوت والدي كصوت فتح صندوق الكنز الخشبي العتيق، صوت هذا الرجل ليس فيه كنـز.

كان في طريقي العديد من الأشخاص الذين أتخيّل أنّهم أبي، لقد كانت الطريقة الوحيدة بالنسبة لي كي أستطيع الاستمرار في حياتي أنْ أصنع هذه النماذج لأبي، ربّما هذا هو السبب الذي كان يمنعني من تصفّح صور أبي الحقيقيّة خصوصًا تلك التي تجمعه مع أخي، لأنّ مقارنة الصورة الحقيقيّة بصور النماذج التي اختلقتها في الطرقات ستسقطهم كما سقط حارس السكّة، والآن يجب أنْ أبحثَ عن حارسٍ جديد للسكّة ومن الأفضل أنْ أكتفي بالابتسامة له.

وصلتُ إلى المدرسة، وهناك كان المكان الوحيد الذي لم أصنع فيه نموذجًا لأبي، لأنّي كنتُ أنا النموذج، في بداية ممارستي للتدريس كنتُ أناقش أبي وغالبًا كانت تختلف وجهات نظرنا حول طرق التدريس والمهنة بشكلٍ عام، لكنّي بعد أن صنعتُ نموذجًا له في المدرسة وهو “أنا” وخصوصًا بعد سنواتٍ من ممارسة المهنة وجدتُ نفسي أرمي وجهات نظري عن التدريس وأقتنع بطرقه، وإنّ أهمّ مبدأٍ من مبادئه كان ترك أثرٍ في الطالب، أي علِّم الطالب شيئًا واحدًا بإتقانٍ فائق يستخدمه طوال حياته بعدها الكتاب سيكون تحصيل حاصل.

في ذاك اليوم كان الطلبة مستغربين بالطبع، فهم لم يروا أستاذهم بهذا الشكل من قبل، وكانوا يتساءلون لماذا لم يطحن الأستاذ عقولنا اليوم؟ لماذا كان متآلفًا مع الضجيج؟ لماذا جلس مكان فراس ولم يتجوّل بيننا كعادته؟ لماذا كتب أسماءنا بخطّ النسخ على دفاترنا ولم يوقّع في نهاية الواجب المنزلي؟

إنّهم لا يعرفون أبي ومن حقّهم أن يستغربوا، كثيرًا ما كان أبي يأخذ دور الطالب ويعطيني دور المعلّم، حتّى عندما كنتُ صغيرًا في الابتدائيّة، لا أعرف إنْ كنتُ أعطيه في ذاك الوقت معلوماتٍ صحيحة أو شرحًا جيّدًا، لكنّي كنتُ أستمتع بهذا الدور على عكس النقاش، لم أكن أحبّ نقاش أبي، لأنّ النقاش سيفرز رابحًا وخاسرًا بينما التعليم سيجعلنا رابحين معًا. في الحقيقة كافأني أبي في الليلة اللاحقة بالضبط وسألني في المنام عن المجموعات الجزئية والتقاطع والانتماء والاحتواء وهي مواضيع في جبر المجموعات في الرياضيات، كانت ليلةً بألف ليلة وليلة، عدتُ إلى النوم في صباحها عشرات المرّات لإكمال المنام، وإعادة الشرح، لكنّه كان موضوعًا سهلاً للأسف ويا ليته سألني عن مفارقة زينون مثلاً.

تمّ نشر هذه الخاطرة في مقال كلاود بتاريخ  01 فبراير 2018 ونُشرت في موقع مقال بتاريخ 04 شباط 2018

 

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى