عالم التقنية والابتكار
أجوبتي في كورا Quoraالرياضيات المتقدمة

لماذا يرى الأغلبية (على عكسي) بأن الرياضيات صعبة؟

إنّها بالفعل كذلك.

أنا مثلك بالفعل أرى الرياضيات سهلة، بينما يراها الكثيرون والغالبية العظمى من الناس صعبةً، وبالرغم من أنّ التوسّل بالأكثرية هو خطأ منطقي، لكن سأخاطر وأقول إنّ رؤية غالبية الناس للرياضيات بأنّها صعبة يؤكّد صعوبتها، وذلك لأنّ السهولة والصعوبة هي أمرٌ نسبيّ، بالتالي نستطيع استبيان آراء البشر حولها.

أما لو قال نفس الأشخاص بنفس النسبة السابقة إنّ الرياضيات مخطئة في قضية ما، ف لن آخذ بآرائهم، لأنّ الخطأ والصواب في الرياضيات ليسا نسبيّان بالعموم (يحتاج الأمر لتفصيل مستفيض حول النسبية في الرياضيات).

إذن، الرياضيات صعبة، لذلك يراها الناس على حقيقتها الصعبة، لكن لماذا هي صعبة؟

في الحقيقة توجد عدّة أسباب لذلك، أوّلًا البناء المنطقي الصارم للرياضيات يُعدّ من أهمّ العوامل التي تجعلها صعبة الفهم أو الممارسة، مثلًا انظر إلى هذا الرباعي

لو لم أكن رياضيًا لقلتُ إنّه مربّع، حتّى المهندسون قد يخطئون ويقولون إنّه مربّع، ف هم يثقون بحواسّهم أكثر من الرياضيين، وقد تجد شخصًا يحاول أن يكون أكثر دقّة من الآخرين فيقول إنّه مستطيل (وبذلك يشمل المربّع لأنّه حالة خاصّة من المستطيل) فإنّي أرى استطالة في أحد أبعاده أكثر من الآخر، لكن وللأسف هذا الشكل بالنسبة للرياضي ليس مربّعًا وليس مستطيلًا وليس متوازي أضلاع، إنّه بالنسبة لي شبه منحرف قائم، فهو يحوي ضلعين متوازيتين فقط، ونحن لا نعتمد على النظر أبدًا في البراهين، ولا حتى على القياس بأدوات القياس (إلا في حالات خاصّة عندما يكون الدرس بالأصل عن استخدام أدوات القياس) فأدوات القياس من اختصاص الفيزيائيين، والنظر من اختصاص الفنانين، أما نحن فنعتمد البراهين الرياضية والمنطقية والمتسلسلة.

إذن أوّل صعوبة في الرياضيّات هي أنّها تضرب عرض الحائط بحواسك.

ليس الحواسّ كالنظر فقط، بل حتّى الحواسّ الرياضيّة (لو كانت هناك حواسّ رياضيّة)

انظر إلى هذا التمرين

بنظرة أوّليّة قال البعض إنّ قيمة c تساوي 2 وقيمة a,b هي 1,5 على الترتيب، لكن عند المقارنة مع الجدول الأيسر، نكتشف الخطأ، بل ويقرّر بعض التلاميذ أنّ التمرين خاطئ، لكن مجدّدًا لا يوجد خطأ وكلّ مافي الأمر أنّ الحدس خاننا، ويجب أن نتبّع الطريقة الرياضيّة النموذجية للحلّ وهي تشكيل المعادلات وحلّها حلًّا مشتركًا، ومنه سنكتشف أنّ قيم المجاهيل ليست أعدادًا صحيحة بل كسرية والسؤال صحيح.


ثانيًا، الممارسة ثمّ الممارسة ثمّ الممارسة

يظنّ الكثيرون أنّ ما نتلقّاه في المدرسة كافٍ لتعبيد طريق الرياضيّات، بل ويقارنها باللغة العربية مثلًا ويقول لدينا حصص مدرسية للرياضيات واللغة العربية بقدرٍ متساوٍ فلماذا تحصيلنا في اللغة العربية أعلى منه في الرياضيات؟

يا سيّدي هذا كلامٌ منقوص، فأنتَ تمارس اللغة العربية في كل أركان حياتك ولو أنّها ليست اللغة العربية الفصحى، إلا أنّك حين تقرأ تعليمات استخدام الدواء تقرأها بالعربية وليس بالرياضيات، بالطبع أنت تمارس الرياضيات دون أن تشعر في كثير من جوانب الحياة، لكنّك تمارس جزءًا بسيطًا جدًا جدًا يُسمّى الحساب (وسأعود لهذه النقطة بعد قليل) والنكتة في هذا الأمر ليست أنّ الحساب جزء صغير جدًا فحسب، بل إنّ هذا الجزء على ضآلته في طريقه للاضمحلال بسبب الآلات الحاسبة.

لو أردت تعلّم العزف على البيانو مثلًا، هل ستكتفي بحصص الموسيقا مع مدرّس الموسيقا؟ ولو أردت أن تصبح لاعب كرة سلة ماهر برمي الرميات الحرّة هل ستكتفي بحصص التدريب مع الفريق؟ في كلا المثالين الجواب لا، لأنّ التدريب الذي تتلقاه مع المجموعة لن يميّزك بشيء وما يميّزك هو التدريب الذي تنجزه فيما بعد بمفردك سواء في الموسيقا أو الرياضية أو الطبخ أو غيره، وكذلك الأمر ينطبق على الرياضيات.

فالصعوبة الثانية في الرياضيّات هي أنّها مثل أيّة مهارة حياتيّة بحاجة للممارسة وليست موهبة محضة.


ثالثًا، هل يمكنك تخيّل حجم الرياضيات؟

حتّى الرياضيين أنفسهم لا يعرفون كم هو حجم وامتداد الرياضيات، توقّف قبل أن تهزأ بي، فأنا أيضًا لا أعلم حجم الرياضيات لكني لا أدّعي أنّي أعرفه، بل أقول إنّها أكبر مما تتخيّله، فالرياضيات بحجم الكون، وحيثما وُجد الكون وُجدت الرياضيات، فالرياضيات ليست اختراعًا بشريًا (هل الرياضيات اختراع أم اكتشاف؟ سابقة أم لاحقة للوجود الإنساني!)

الرياضيات وعلى عكس ما يعتقد الكثيرون في تجدّد مستمرّ، فهي لا تقتصر على نظريات فيثاغورس وإقليدس والتكامل والتفاضل، هناك فروع كبيرة في الرياضيات لا نسمع عنها شيء في المدارس مثل التبولوجيا (إجابة ‏راغب بكريش (Ragheb Bakrich)‏ على ما هي الطوبولوجيا؟) ونظرية الألعاب ونظرية البيان والهندسات اللاإقليدية، هل تعلم أنّ هناك ما يُسمّى بهندسة سيارة الأجرة، هناك أكثر من سبعين مسألة في الرياضيات غير محلولة، من بينها سبع مسائل إن حللت إحداها تحصل على مكافأة مليون دولار.

هل سمعت بالكومبيوتر الكمومي جوجل تزعم إحراز السيادة الكمية على العالم

هذا الكومبيوتر الذي أنتجته جوجل ويوجد أجهزة شبيهة له في مؤسسات أخرى مثل IBM وربما بعض الحكومات بشكل سري، يعتمد مبادئ مختلفة عن الكومبيوتر التقليدي الذي يعتمد البوابات المنطقية (بالمناسبة هي جزء من الجبر يسمى الجبر البولياني)، المهمّ هذا الكومبيوتر الخارق يعتمد مبادئ الفيزياء الكمومية التي تمنحنا إمكانية تخزين المعلومات في “الكيوبت” بدلًا من “البت”، الموضوع معقّد لكنّ نتيجته أنّ الحاسوب الكمومي يستطيع إنجاز ما ينجزه الحاسوب التقليدي الخارق خلال آلاف السنين من العمل المتواصل في عدة دقائق فقط.

ما هو بيت القصيد هنا؟ إنّ العلماء يسخّرون مفاهيم فيزيائية “تحت ذرّية” تُدرس ضمن الفيزياء ما دون الذرية أو الفيزياء النووية (بالمناسبة يشكّ في وجودها شريحة لا بأس بعددها من الناس) وهذه المفاهيم والجسيمات تكلّف ملايين الدولارات من أجل رصدها ودراستها، لكن يُستعان بالرياضيات في دراستها والاستفادة منها ضمن ما يُسمى اليوم “الفيزياء النظرية” التي تعتمد بدلًا من المخابر في اختبار وتجريب الفرضيات والوصول إلى نظريات معتمدة تعتمد على الكائنات الرياضية، حيث وفّرت الرياضيات مثلًا فضاء بأحد عشر بعدًا مناسب لتطبيق نظرية الأوتار الفائقة بدلًا من الأبعاد الثلاثة المتوفرة بين أيدينا (حتى البعد الرابع الزمن هو كائن رياضي).

فالصعوبة الثالثة هي حجم الرياضيات الهائل الذي لا يمكن الإحاطة به.

زر الذهاب إلى الأعلى