عالم التقنية والابتكار
كتب

اختراع الخُرَاع

«اختراع الخُراع». والخُراع في اللغة شيء يصيب الدابة في ظهرها فتبرك فلا تستطيع القيام.
ومؤلفه هو صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي المتوفى سنة 764هـ، أحد أئمة القلم والأدب في عصره، مولده سنة 696. له نظم جيد وله مؤلَّفات جليلة، وولي في مصر والشام كتابة الإنشاء لملوكها؛ كتب عنه شيخه الذهبي ووصفه بأنه “الإمام العالم الأديب البليغ الأكمل، طلب العلم وشارك في الفضائل وساد في علم الرسائل، وقرأ الحديث وجمع وصنَّف، والله يمدّه بتوفيقه، سمع مني وسمعت منه، وله تآليف وكتب وبلاغة”.
وقد نقلت هذه العبارة من كتاب «شذرات الذهب». وأدلّ القراء الذين لا يعرفونه عليه لينتفعوا منه (أي «الشذرات»)، فهو تاريخ مفيد، بدأ من السنة الأولى للهجرة وانتهى إلى سنة ألف، يذكر في كل سنة ما كان فيها من الأحداث ومَن مات فيها من الأعلام.
والصفدي هو مؤلف الكتاب الكبير «الوافي بالوَفَيات» الذي يكاد يكون أجمع كتب التراجم (1). ومن مؤلفاته المطبوعة «نَكْت الهِمْيان في نُكَت العميان» (1) وله شرح لاميّة العَجَم، وكتب كثيرة معروفة.
مهر في فن الأدب، وكتب الخط المليح، وقال النظم الرائق، وألف المؤلفات الفائقة، وباشر كتابة الإنشاء بمصر ودمشق، ثم ولي كتابة السر بحلب، ثم وكالة بيت المال بالشام، وتصدى للإفادة بالجامع الأموي، وحدّث بدمشق وحلب وغيرهما. وتحدث عنه شيخ الإسلام التاج السبكي فقال إنه “برع في الأدب نظماً ونثراً وكتابة وجمعاً، وعُني بالحديث، ولازم الحافظ فتح الدين بن سيد الناس، وبه تمهّر في الأدب، وصنّف الكثير في التاريخ والأدب. قال لي إنه كتب أزيد من ستمئة مجلد تصنيفاً”

أما هذه الرسالة التي نتكلم عنها فإنها في شرح بيتين من الشعر، شرحهما المؤلف شرحاً مستفيضاً، حلاّه بالنكات اللغوية والمسائل النحوية والطرائف الأدبية والآراء الفلسفية، وزيّنه بالحِكَم الباهرة والأمثال السائرة، واستشهد على كل مسألة من مسائله بأقوال العرب، ولكنه -وتلك ميّزة هذا الكتاب- تعمّد “أن لا يأتي إلاّ بما هو خطأ محرَّف عن أصله، مَعدول به عن جادّة الصواب، مُمَال به عن سبيل الحق: فلا بيتَ يُنسَب إلى صاحبه، ولا كتابَ يُعزى إلى مؤلّفه، ولا مسألةَ تُوردَ على وجهها، ولا بلدةَ توضع في موضعها … “، وقد أورد ذلك كله بحذق ومهارة ولباقة وظرف، حتى إن الرجل ليتلوه فيحس -لحلاوة ما يقرأ- أنه لا يقرأ إلا حقاً وصدقاً، وما فيه من الحق والصدق شيء!
ولا يقدر على الخطأ الذي لا صوابَ فيه إلا من يقدر على الصواب لا خطأ معه؛ يحتاج كلاهما إلى علم بمواقف الخطأ ووجوه الصواب، وانتباه وفطنة واطّلاع ومعرفة، كيلا يخلط خطأ بصواب أو صواباً بخطأ. والرسالة -على ما فيها من الهَزْل والتحريف- تدل على طول باع مؤلفها في علوم اللسان وعلوم العقل، ووقوفه على آراء الفلاسفة وآثار الأدباء ومباحث العلماء، ولا تخلو من فوائد.
وهي ناقصة من وسطها وآخرها، والموجود منها ثلاث وخمسون صفحة، في كل صفحة أحد عشر سطراً، مكتوبة بخط قريب من النسخي مضبوط قليل الأخطاء يدلّ على علم ناسخه، وليس في الرسالة تاريخ، ولكن ورقها من الورق الذي بَطَلَ استعماله من ثلاثة قرون، فكأنها مكتوبة في القرن التاسع أو العاشر. على الصفحة الأولى منها:
كتاب اختراع الخراع
تأليف المولى الأجل الفاضل
العلامة فريد دهره ووحيد عصره
صلاح الدين أبي الصفا خليل بن أيبك الصفدي
رحمه الله تعالى
للشيخ عبد الجواد:
بدا لابنِ أَيَبَكَ في عصره … كسادُ العُلومِ وخُبْثُ الطِّباعْ
وأنّ الأماثِلَ قد أصبحوا … هَباءً يُطارُ بِهم في الشَّعاعْ
وأنّ كثيراً كَمَالاتُهم … دَعاوَى أحاديثُها في انقطاعْ
فجَرَّ بأفعاله رأيَهم … وأتحفهم باختِراعِ الخُراعْ


أول الرسالة: قال أبو خُرافة الهدّ القشيري سامحه الله تعالى: حضرت في بعض أوطان أوطاري وأوطار أبكاري مع جماعة … فابتدر أحد ظرفائهم فأنشدنا بيتين هما:
لو كنتِ بَكْتوت امرَأَةَ جاريَةِ الفَضْلِ … وكانَ أكْلُ الشَّعيرِ في البَرْدِ مَلْبَسكو
لا بُدَّ مِنَ الطُّلوعِ إلى بِئْركِ في … الليلِ وظَلامُ النّهارِ متضحاً (1)
فأخذ الجماعة في الإعجاب مما اتفق فيهما من اضطراب النظم، واختلال القافية، وعدم الإعراب، ومخالفة أوضاع اللغة، وتناقض المعنى وفساده، والتخبيط في التاريخ … وقضوا نهارهم بتعاطي كؤوس العُجْب من ذلك؛ فقال أحدهم: إنهما محتاجان إلى شرح ينخرط معهما في سلك الغريب …
فصبّحهم وقد أعمل في الشرح حيلته، فقال: حدثني نصير الدين أبو الهزايم ثابت (2) قال: حدثني من كتابه أصيل الدين أبو المفاخر لقيط القطربي، وقيل القرطبي، قال: أخبرني إجازة أسد الدين أبو ثور صقر الفنحكردي من أهل دمشق، قال: إن افتخار الدين سبكتكين القُسَهتاني صاحب «زهر الآداب» قال: عارض هذين البيتين الأفوهُ الأَودي أبو علي، على ما ذكره الحريري في «الخطب النباتية» (3) في قوله:
وإذا نظرتُ إلى الوُجود بعينكم … فجميع ما في الكائنات مَليحُ
وهذا من قصيدته الطَّرْدية في التشبيهات، وأولها:
وأنت يا غُصنَ النّقا … ما أنتَ من ذاك النّمَطْ (1)
وزعم مؤيد الدولة أبو خاذل أيدكين الجواليقي، صاحب المديح المأموني، في كتاب الصادح والباغم، في باب المراثي، أنهما من باب قول الثعالبي:
لو كنت شاهين جارية الفضـ … ـل وكان الحريم منزلك
وليس بشيء، والصحيح الأول. (2)
قال الشارح عفا الله عنه: نبدأ أولاً بما في البيتين من اللغة، وثانياً بما فيهما من الإعراب، وثالثاً بما فيهما من التاريخ وتقدير المعنى، ورابعاً بما فيهما من البديع، وخامساً بالكلام على ما يتعلق بعَروضهما، وسادساً بما يتعلق بعلم القافية.
القول في اللغة
قوله «بَكْتوت»: هو عَلَم مُرَكَّب من اللغة العربية والتركية، فبَكْ بالعربي وتوت بالتركي، ومعناهما «أمير توت»، مثل دمرطاس ومروان وقراحاً وما أشبه ذلك. ومن قال إن معنى ذلك بالعربية «أمير النّيروز» فلا يتأتى له ذلك، إلا إن كان النيروز في شهر توت على ما ذكره السَّخاوي في سمع الكيان (1).
قوله «امرأة»: المرأة مشتقة من المرآة، وهي التي يرى الإنسان فيها وجهَه إذا كانت في جيبه، أعني السراويل، وكقول الأخطل:
ما أخَذَ المِرآةَ في كَفّهِ … ينظُرُ فيها للجَمَال المَصونْ
إلاّ رأى الشمس وبَدْرَ الدُّجى … ووجهَهُ في فَلكٍ يَسْبحونْ (2)
قوله «جارية»: فيها قولان، منهم من قال: هي الساقية لأنها تجري من أسفل إلى فوق، واستشهد بقول الحُطَيئة:
نديمتي جارِيةٌ ساقِيَهْ … ونُزهَتي ساقيةٌ جاريَهْ
جاريةٌ أَعْيُنُها جَنّةٌ … وجَنّةٌ أَعْيُنُها جاريَهْ (3)
ومنهم من قال: هي في مقابلة المملوك، واستشهد بقول العَكَوَّك:
أيا بديعَ الجَمالِ رِقَّ لِمَنْ … سِتْرُ هَواهُ عليك مَهْتوكُ
دُموعُهُ في هَواكَ جارِيةٌ … وقلبُهُ في يدَيْكَ مَمْلوكُ (1)
وهذا باطل ببديهة الإنسان.
قوله «الفضل»: هو كل شيء ناقص (!) ومنه سُمِّي عبد الرحيم كاتب مروان بالفاضل لأنه كان قصيراً (2)، وفي أمثال بُزُرْجَمْهِر: «لأمر ما جَدَعَ قصيرٌ أنفَه» (3). قال التَّلَّعْفَري:
ضِعافُ الطَّيرِ أَطْوَلُها جُسوماً … ولم تَطُلِ البُزاةُ ولا الصُّقورُ (4)
قوله «كان»: معلوم أنها للاستقبال (!)، وسيأتي الكلام عليها في الإعراب.
قوله «أكل»: هو الحالة المؤدّية إلى الجوع لمن هو شبعان (!).
قوله «الشعير»: معروف أنه من فواكه الآدميين، ولا يوجد إلا في جَزَرات الهند بالمغرب في الليل دون النهار صيفاً، قال ابن السّاعاتي:
جاريةٌ لم تأكُلِ المُرَقَّقا … ولم تَذُقْ مِنَ البُقُولِ الفُسْتُقَا
ومن استشهد في هذا بقول ابن الفارض يصف رجلاً من الأكراد كَوْسَجاً:
عَلّقَ اللهُ في عَذَاريكَ مِخلا … ةً، ولكنّها بغيرِ شَعير (1)
فليس من التحقيق في شيء، والمعنى على الأول.
إلى أن قال: قوله «من الطلوع إلى بئرك»، «الطلوع»: نعوذ بالله منه، لأنه مرض بلغمي يحدث في الشَّعر لمداومة أكل الزَّنْجبيل والأشياء الحارّة كالبطّيخ والأسماك وغيرها؛ قال ابن الدُّمَيْنَة يرثي شخصاً:
فَسّرَ لي عابرٌ مَناماً … فصّلَ في قوله وأَجْمَلْ
وقال لا بُدّ من طُلوعٍ … فكان ذاك الطُّلوعُ دُمَّلْ (2)
«بئركِ»: لفظ مركب من الأعداد في التركي، كقولك في العربي واحد اثنان، فبير واحد وإكي اثنان، ومجموع هذا العدد سبعة ونصف، لأن إكي ناقصة الياء، ولولا ذلك لكان المجموع ثمانية. وألفاظ الأتراك لا شاهد عليها من العربية، فلهذا أضربنا عن الاستشهاد لذلك!
«في الليل»: الليل معروف، وهو من الزّوال إلى أذان العصر في العُرْف، وفي اللغة من طلوع الشمس إلى غروبها؛ كما قال دُرَيد بن الصِّمَّة في الغزل:
أمستوفي قُلَيّوب … إلى كم هكذا تكذبْ؟
من الصُّبح إلى الظهر … إلى العَصر إلى المَغربْ
وقليوب بلدة صغيرة على شاطئ الفرات من أعمال عدن، وقيل هي إقريطش باليمن (1).


إلى آخر ما قاله في اللغة في هذين البيتين، ثم انتقل إلى:
القول في الإعراب
«لو»: حرف يجرّ الاسم ويكسر الخَبَر، على ما ذكره الرُّمّاني في شرح طبيعي الشِّفا والكِسائي في رموز الكنوز (2)؛ هذا مذهب الكوفيين، والصحيح أنها من الأفعال الناقصة التي لا عمل لها.
وإنما قلنا إنها فعل ناقص لأنها كانت في الأصل «لوى» فنقصت حرفاً، وإنما قلنا إنها لا عمل لها لأنها متى نقصت ضَعُفت عن العمل، وهذا الذي ذهب إليه إقليدس وأرشميدس في مخارج الحروف وبرهنّاه مستشهدَين على ذلك بقول الشَّمّاخ في رائيّته:
أرسَلَ فَرْعاً ولَوَى هاجري … صِدْغاً فأعيا بهما واصفُهْ (1)


وقد سقط من الرسالة أوراق لا أدري كم هي، ثم يبدأ الموجود منها بقوله: قال الشارح رحمه الله تعالى:
«أكل»: فعل مضارع، لأن في أوله أحد الزوائد الخمسة وهو الهمزة؛ إنما قلنا بزيادتها لأنه لا يصح تجريدها، تقول: «كل» شيء. قال لَبيد:
كلُّ خَطْبٍ ما لم تكونوا غِضاباً … يا أُهَيْلَ الحِمى عَلَيّ يَسيرُ
وقد جاء فعلاً ماضياً في قول الخنساء الأَخْيَلية ترثي زوجها:
أَكِلُ الأمرَ إذا ما حلَّ بي … للّذي قَدَّرَهُ أنْ يَقَعَا (2)
«الشعير»: الألف واللام أصلية، وهو نكرة إن قلنا بأنها أداة التعريف، ومعرفة إن قلنا بأصليَّتها، ذكر ذلك المبرَّد في كتاب ديسقوريدوس في باب النَّعْت، وهو هنا مرفوع على الحال (1).
«في»: اسم، لأنه يحسن دخول حرف الجر عليه: تقول انتقل من الشمس إلى فيء الظل، ودخول الألف واللام: تقول هذه الدراهم مبلغ ألفي درهم، والإضافة تقول: أعجبني حسن فيك، والتنوين أيضاً تقول: هذا المال فيءٌ للمسلمين. وعلى الجملة فما للنحاة في الأسماء كلمة يدخلها سائر خواص الاسم إلا «في»، وهي ممنوعة من الصرف لأنه اجتمع فيها من العلل أكثر مما اجتمع في أذربيجان، وذلك أن الفاء بعشرة والياء بثمانين على ما ذكره الزجّاج في الجُمَل، فصارت تسعين، وعلل الصرف المانعة تسعة.
قال شُبْرُمة بن الطُّفَيل في وصف الزَّرافة:
رُبَّ بُرْغوثٍ ليلةً بِتُّ منه … وفؤادي في قَبضةِ التّسعينِ
والقَبْض هو المنع من الصرف (2). فلهذا قال النحاة إن «في» لا تنصرف.
«البرد»: منصوب بالألف واللام التي في آخره على أنه خبر متقدِّم تأخر عنه المبتدأ فحُذِف، وهي مسألة مشهورة في باب الاستثناء، ونص عليها سيبويه خلافاً لابن الحاجب لمّا بحث معه في المسألة الزُّنْبورية بين يدي الوليد بن عبد الملك. وتقدُّمُ الخبرِ دائرٌ في الكلام على ألسنة العرب، قال كُثَيّر عَزّة في محبوبته بُثَينة:
والله ما من خَبَرٍ سَرّني … إلاّ وذِكراكِ له مُبْتَدَا
فقدّم الخبر وأخّر المبتدأ (1).


إلى آخر ما قاله في اللغة في هذين البيتين، ثم انتقل إلى:
القول على المعنى
قال: قبل الخوض في الكلام على المعنى نقدّم مقدمة تشتمل على ما يتعلق بهذين البيتين من التاريخ منقولاً من «المجسطي» للأحنف بن قيس في تاريخ بغداد؛ فنقول: بَكتوت هذه كانت بعض حَظايا النُّعمان بن المُنذِر، شراها من نور الدين الشّهيد صاحب القَيْروان، وكانت قبلُ لعَنان بنت النّابغة ابن أبي سُلْمَى زوج سيف الدولة وهو ابن بُوَيه أول ملوك السامانيّة الذين أخذوا خُراسان من الفاطميين، أول ملوكهم السفاح، والسفاح هو أخو العاضد (2).


تحميل كتاب اختراع الخراع بصيغة pdf من هنا

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى