عالم التقنية والابتكار
أراجيكالرياضيات المتقدمة

الرياضيات البحتة … رياضيات لأجل الرياضيات!

إنّ هذا السؤال يكافئ السؤال التالي: “لو حذفنا الرياضيات البحتة من عالمنا، هل ستستمرّ الحياة بشكلٍ طبيعيّ؟”.

لو أردنا الإجابة بكلمة واحدة، فالإجابة لا، لن تستمرّ الحياة كما نعرفها اليوم بدون الرياضيّات البحتة، بل يمكننا طرح أسئلة مشابهة مثل: ما أهمّيّة علم الفلك والتنقيب عن الآثار ورقص الباليه وتربية قطّة في المنزل.. إلخ؟ ما أهمّيّة كلّ هذه الأشياء؟ وهل ستتوقّف الحياة بدونها؟

في الحقيقة إنّ العالم الذي نراه ونعيش فيه اليوم هو نِتاج كلّ هذه العلوم والفنون والأشياء التي قد تراها تافهةً، ولو غاب عنه عنصرٌ واحد فربما لم نكن نجلس في مكاننا اليوم ونقرأ هذه السطور، أو العكس تمامًا ربّما سنكون في عالمٍ أكثر تطوّرًا وازدهارًا ممّا عليه الآن، لكن مع ذلك فإنّ للرياضيّات البحتة حصّة الأسد من التأثير في كافّة العلوم التي ستؤثّر بدورها على نمط حياتنا.

تُعدّ الرياضيّات أقدم وأضخم صرحٍ علميّ شيّده الفكر البشريّ، وتعتمد كلّ العلوم كالطبّ والهندسة وعلم النفس والديكور والبرمجة والفن والموسيقا والسياسة والاقتصاد، تعتمد جميعها على الرياضيات بنسبٍ متفاوتة، والفلسفة هي الاستثناء الوحيد.

ما هو تعريف الرياضيات؟

يمكن تعريف الرياضيات بإنها “دراسة الأنماط”، بينما يمكن تعريف العلم بأنّه “دراسة الأنماط في الطبيعة”، ومنذ نشأة الوعي البشري، كنّا نستخدم التفكير لتحسين حياتنا، وهذا التفكير كان يقودنا في كلّ مرة لابتكار علمٍ جديد، ولولا الرياضيات البحتة أي علم دراسة الأنماط لن تكون لدينا القدرة على التفكير بالأنماط!

لكن لماذا الأنماط على هذه الدرجة من الأهمّيّة؟ ببساطة لأنّها تسمح لنا بنمذجة الكون من حولنا، انظر من حولك، كلّ التصنيفات والتعريفات التي تعلّمتها في حياتك تعتمد على اكتشاف النمط ثمّ وضع التعريف، ثم تعميم هذا التعريف.

في البداية كان الظلام، ثمّ أتى النور، عاد مرّةً أخرى الظلام، وتبعه النور، حسنًا يمكننا الآن توقّع الحدث القادم وهو الظلام، ولا حاجة للانتظار لنرى هذه النتيجة، فقد اكتشفنا النمط، ونتيجة اكتشافنا لهذا النمط البسيط أصبح بإمكاننا استخدام وقتنا بشكلٍ فعّالٍ، وبتنا ننظّم أعمالنا لتتناسب مع هذا النمط.

ما هي مجالات الرياضيات البحتة؟

تدرس الرياضيات البحتة أيضًا مفاهيم رياضية مجرّدة، أي أنها غير ملموسة ولا يمكن رؤيتها، ولا يوجد تطبيق مباشر لها اليوم، فإذا كان الوجه الأول للرياضيات هو الرياضيات التطبيقية، فإنّ الوجه الثاني الذي لا يقلّ أهمّية هو الرياضيات البحتة، ويمكن القول باختصار هي الرياضيات من أجل الرياضيات.

من مجالات الرياضيات البحتة: المنطق ومنها المنطق التجريدي وجبر المنطق (جبر بول) وجبر الأعداد الحقيقية والجبر التجريدي، والتبولوجيا، والتحليل العقدي والتحليل العددي، ونظرية الأعداد ونظرية القياس…

لكن كثير من أقسام الرياضيات البحتة تجد طريقها في يومٍ ما للتطبيقات العملية، وهذا بالفعل ما حدث مع فروع الهندسة الإقليدية (نسبة إلى إقليدس) وهندسة لوباتشفسكي وهندسة ريمان والتحليل الحقيقي والتحليل العقدي ونظرية الألعاب وجبر المنطق…

لذا فإنّ الرياضياتيين يبدأون بفكرة رياضية شديدة التجريد ويتوسّعون بها، ويبنون عليها، وبعد سنوات قد تصل لمئات السنوات لا بدّ لأحد العلوم التطبيقية خاصّة الفيزياء والمعلوماتية من الاستفادة منها.

ولأزيدكم من الشعر بيتًا فإنّ الفيزياء النظرية اليوم تسير على خُطى الرياضيّات البحتة، مثلًا نظريّة الأوتار، وهي أشهر نظريّة فيزيائيّة يجري العمل عليها، إنّ هذه النظريّة تعتمد اعتمادًا كليًّا على الرياضيّات، ليست أيّة رياضيات، بل الرياضيات البحتة، فهي المنظومة الوحيدة التي تستطيع استيعاب الأبعاد الأحد عشر التي تلزم النظرية، كمان أنّها تقدّم فضاءاتٍ وبنىً يمكن المراوحة فيها واختبار الفرضيّات ونقضها أو إثباتها.

هل نحن بحاجة للرياضيات البحتة حقًا؟

لكن قد يتبادر للذهن السؤال التالي: لنسلّم بأنّ الرياضيّات البحتة تجد في النهاية تطبيقاتٍ مناسبة، إذن لماذا يعمل العلماء عليها قبل وجود الحاجة لها؟ أليس في هذا هدرٌ للجهود؟

جميعنا متّفقون أنّ هناك من يمارس الفنّ من أجل الفنّ، أو الرياضة من أجل المتعة، وليس بالضرورة أن يكون الفنان أو الرياضي محترفًا أي يكسب مالًا من حرفة الفن وحرفة الرياضة، فلماذا نسلب هذا الحقّ من علماء الرياضيّات؟

بالمناسبة فإنّ بعض التعريفات وتصنيفات العلوم تضع الرياضيات في خانة الفنون وليس العلوم وهو أمرٌ جدير بالنظر خصوصًا إن علمنا أنّ الرياضيّات غير قابلة للنقض، وهذا يفقدها واحدًا من أهمّ صفات العلوم وأقصد قابلية النقض، حتّى أنّ الإمام الغزالي قال “إنّ البراهين الرياضيّة لا سبيل لمعارضتها”.

في النهاية، إنّ دراسة الرياضيات البحتة تشبه زراعة مئة بذرة، والعناية بها لتنمو وتنضج، لكن القليل منها فقط سيصبح ثمارًا مفيدة للأكل، بينما البقية لن تُنتج إلا بذورًا أخرى، نعود ونزرعها في موسمٍ تالٍ لنحصل على جيلٍ جديد من الثمار اللذيذة، وبذورًا أخرى، وفي كلّ دورة سنرى ثمارًا أكثر نضارةً وأشدّ حلاوة وبذورًا أخرى تتابع المسيرة.

يبدو هذا طريقًا شائكًا أو مظلمًا على الأقلّ، فمن ذا الذي سيزرع بذورًا يأكل ربعها فقط؟ إنّه المزارع الذي يستمتع بعمله، وكذلك الرياضيّات البحتة، هناك علماء يستمتعون بدراستها، يقع على عاتقهم عبء رعاية بذور الرياضيات البحتة لإيصالها للأجيال اللاحقة، دون أن ينسوا نصيبهم من المتعة والترفيه، وأنا شخصيًا سأكون في أعلى درجات السعادة لو اكتشفتُ عددًا جديدًا من “أعداد ميرسين” أو “أعداد ثابت” مع علمي بأنّ فائدة هذه الأعداد تكاد تكون معدومة.

أخيرًا وبالرغم من أنّ أحد الأساليب التي استخدمتها في شرح قيمة الرياضيات البحتة كان تقليديًا وهو البحث عن الفوائد العملية للرياضيات البحتة والبرهان على أنّ مسحها من قائمة العلوم سيغيّر شكل العالم، إلا أنّي أميل لاعتبار الرياضيات –والبحتة خصوصًا– هي جزء أساسي من الكون وكانت موجودة على الدوام حتى قبل وجود الكون بخلاف الفيزياء التي لم ترَ النور إلا بعدما وُجد الكون نفسه، ولهذا سأناقش مسألة “هل الرياضيات اختراع أم اكتشاف؟” في مقالٍ لاحق.

نُشر هذا المقال في أراجيك بتاريخ 18.05.2020

زر الذهاب إلى الأعلى