أدب

قصّة قصيرة: الفتاة أم النمر فرانك ستوكتون

الفتاة أم النمر – فرانك ستوكتون – ترجمة عمار الحامد

منذ عصورٍ خلت، يحكى أن ملكاً جبّاراً تجمعت في شخصه ملامح التقدمية والتخلف، فمن جهة، توسعت المملكة في ظله أيما اتساع وازدهرت أيما ازدهار، ومن جهة أخرى: اتصف بانقياده المطلق لنزواته خصوصاً في ما يتصل بشؤون الحكم.
ومن جملة الأفكار المتخلفة التي سادت في عصره، فكرة الساحة العامة التي هي بمثابة المحكمة، هناك يؤتى بالمتهم ليقرر الحظ وحده ما إذا كان مذنباً أم لا. كانت تلك الساحة عبارة عن مستطيلٍ طويلٍ تحتل منصة الملك وبطانته أحد أطرافه، وعلى الطرف المقابل يوجد بابان متشابهان ومتجاوران، أما ما تبقى من جوانبه، فمخصصٌ لمن أراد الحضور من العامة.

لقد اعتاد الناس الحضور إلى هذه الساحة ليشهدوا المحاكمات، حيث يجلس الملك على منصته، تعطى الإشارة، فيفتح الباب من تحت تلك المنصة، يخرج المتهم إلى الساحة وكل ما عليه فعله هو أن يفتح أحد البابين.
فلو فتح الباب الأول، يخرج عليه نمر جائع هو الأشرس في المملكة، فيقطعه إرباً جزاءاً بما كسبت يداه. عندها يمتزج رنين الأجراس الحزين بعويل الباكيات ونواح النائحات اللائي يقتتن على مصائب الآخرين، ثم يجر الحزانى من ذويه أذيال الخيبة وهم مطأطئوا الرؤوس حسرةً على هذا الشيخ الوقور أو ذاك الشاب الوسيم.
أما لو فتح الباب الآخر، فستخرج عليه إحدى حسناوات المملكة والتي أختيرت له خصيصاً، فيعقد قرانه عليها شاء أم أبى، ساعتها يفتح باب آخر من تحت منصة الملك ويخرج أحد الكهنة لمباركة الزواج، ثم تقرع أجراس الفرحة ليلتحق الكاهن والمغنون والراقصون والموسيقيون بموكب العرس المهيب، هنالك ترتفع أصوات الزغاريد وينثر الأطفال الزهور على إمتداد الطريق المؤدي إلى بيت العريس.
ولكن من يدري، أي البابين الأول وأيهما الثاني؟ هذه باختصار سنة الثواب والعقاب التي سنها الملك لشعبه والتي لا يجب أن يقف كائناً من كان بوجه تطبيقها، ولما هذا الوقوف والمسألة غاية في النزاهة والمثالية، فللمتهمين أن يفتحوا ما شاؤوا من تلكم البابين دون أي تدخل، هذا فضلاً عن أن الشعب مقتنع بعدالة هذه المحاكمات على فرض أن صاحب الجلالة ترك الخيارات مفتوحةً أمام المتهمين.

وأخيراً، شاءت الأقدار أن تقول كلمتها، فلقد وقعت ابنت الملك واسمها سارة بحب شاب ليس له مثيل في الشجاعة والجمال بيد أنه كان يعاب عليه أنه من عامة القوم. كان الملك يحب ابنته حتى أكثر من نفسه، ذلك أنها مرئاته التي يرى العالم من خلالها، لا بل هي ردة فعله التي تساويه في القوة وتوازيه في الإتجاه.
ما إن سمع الملك بتلك العلاقة، حتى أمر بزج الشاب في السجن وحدد موعداً لمحاكمته التي أعد لها خير إعداد لتكون درساً لا يُنسى لكل من تُسَوِّل له نفسه التطاول على الأسرة الحاكمة، فالدولة دولة والمواطن مواطن، والحق أن الملك كان عاقداً العزم على إنزال أشد العقاب بذلك الشاب الذي تجرأ على القيام بتلك السابقة التي ما سبقه إليها من أحد حتى وإن فتح الباب الذي تختبئ خلفه الحسناء.
ثم جاء اليوم الموعود وتجمع الناس من كل حدبٍ وصوب في الساحة التي ضاقت بالحاضرين، كيف لا والمحاكمة هذه المرة استثنائيةٌ وبامتياز. أخذ الجميع أماكنهم، أعطيت الإشارة، ففتح الباب المخصص للمتهمين وخرج الشاب إلى الساحة.

كانت الملامح الملائكية ترتسم علاماتٍ فارقةً على وجه ذلك الشاب الطويل القامة البهي الطلعة لتأسر قلب كل من رأاه، فلا جرم أن تقع الأميرة في حبه، ثم كيف لا تقف الطير على رؤوس هاؤلاء الناظرين إليه وهو لا يحول بينه وبين الموت إلا بضع خطوات، فيال الله ويال هذا القدر المبرم اللا يرد.
بمجرد خروجه إلى الساحة، إستدار صوب الملك وانحنى ليلقي عليه التحية، على أنه في تلك اللحظات الحرجة لم يكن ليلقي بالاً للملك ولا لشعبه طرّاً، كانت عيناه تمعنان النظر في سارة معرفةً منه بمقدار إهتمامها بهذه المحاكمة، فهي طرفٌ فيها بطريقةٍ أو بأخرى.

ما من شكٍ في أن تكون الأميرة من القوة بمكان بحيث استطاعت أن تحافظ على رباطة جأشها وهدوء أعصابها لمثل هاكذا يوم، فبعد أن أطلقت من الألسن ما أطلقت بالذهب تارةً وبكيد النساء تارةً أخرى، احتفظت لنفسها بسر ما وراء البابين لا بل وحتى اسم الفتاة المختبئة خلف أحدهما.
كانت تلك الفتاة إحدى جميلات المملكة مما جعلها محط كراهية الأميرة التي وجدت في شرف أصلها ووضاعت أصل غريمتها خير وعاءٍ لصب غيرتها، كما إن منظر تلك الوضيعة الأصل وهي تنافس ولية نعمتها على حبيبها أصبح هاجسها الذي تغفو عليه وتصحو.

في لحظة توتر مصيرية، التقت عينا الشاب بعيني حبيبته التي لم تستطع مقاومة نظراته وهي تتوسلها أن تكشف عن السر ما وراء البابين بالقول: أيهما؟ كما لو أنه يصيح بأعلى صوته: افعلي شيءاً من أجلي، فليس ثمة وقت أمامي! إذ ذاك بدا على الأميرة الإضطراب كونها تعرف خلف أي باب تختبئ الحسناء وخلف أي باب يختبئ النمر، ناهيك عن أن حياة حبيبها مرهونة بإشارة من يدها.
ودون أن يشعر بها أحد، رفعت يدها وأنزلتها بسرعةِ البرق، فانتصب الشاب واقفاً وتوجه إلى حيث أشارت. أرخى الرعبُ بظلالهِ على المكان، وحبس الجميع أنفاسهم، وتركزت الأنظار على ذلك السائر نحو مصيره بخطاً واثقة والذي ما إن وصل إلى الباب الأيمن حتى فتحه دون ما تردد.

على هذه النقطة تحديداً تتمحور قصتنا، من عساه يخرج من وراء ذلك الباب: هل تكون الحسناء؟ أم تراه يكون النمر؟ في الحقيقة، إننا كل ما فكرنا بالإجابة، كل ما إزدادت المسألة صعوبةً وتعقيداً، إذ لا شك أنها تقتضي أن نسبر أغوار النفس البشرية المعقدة بطبيعتها، من أجل ذلك لا أجدني أدعوكم للإجابة عن السؤال التالي: ماذا ستفعلون لو كنتم مكان الأميرة؟ وإنما أسأل:
إلى أي باب تتوقعونها أشارت وهي التي يحترق قلبها غيرةً وحزناً بعد أن قلبته على نار هادئة حسرةً على حبيبٍ فقدته إلى الأبد، حبيبٌ حسمت مصيره بنفسها، ولكن من يدري: هل طغت عاطفتها على قرارها ذاك، أم كان الحقد الذي تحمله تجاه غريمتها سيد الموقف؟ فأين قررت أن يقضي بقية عمره: أبين أحضان الحسناء، أم بين أنياب النمر؟

ثم كم من ليلةٍ داهمها طيفه وهو يفتح باب النمر ليصبح بعدها ذلك المنظر كابوساً يصرف عنها نومها ويعكر عليها صفو يقظتها؟ ولكن… كم من ليلةٍ أخرى رأته باسم الوجه وهو يفتح باب الحسناء لتكز بعد ذلك على أسنانها غيضاً وتقطع شعرها ندماً وهي تراه يرتمي بين أحضان إمرأةٍ أخرى ترمقها بعينين أقرتهما الأقدار بحبيب وزوج لطالما تمنت أن يكون من نصيبها؟
وكيف بها إذا رأته يزف لغيرها أمام عينيها، ثم يمسك بيد عروسه ليقطعا سويةً الطريق المفروش بالزهور في يوم أشبه ما يكون بالعيد، يومٌ لا صوت يعلو فيه على صوت الغناء الجماعي، يومٌ بهيجٌ لا مكان فيه للعزف المنفرد على آلة البكاء؟
أفليس خيراً لها أن يموت مرةً واحدةً ثم تلحق به ولو بعد حين؟ ولكن… من أين ستأتي بقلبٍ يحتمل منظره وهو يقع فريسةً لذلك النمر؟ وأنى لها جَلَداً يجعلها تقوى على سماع صراخه ورؤية دمائه وهي تسيل شاهداً حياً على حبٍ مات على يدها شر ميتة؟

كل ما أعرفه هو أنها إتخذت قرارها بعد طول تفكير وسابق قناعة، فلقد ساقت لنفسها كل الحجج والمبررات قبل أن تستجمع شتات عقلها وقلبها وترسل تلك الإشارة الخاطفة معرفةً منها بأنها مسؤولةٌ عن هذا القرار طال الزمان أم قصر.
وإنني هنا لأنأى بنفسي عن التخمين للصعوبة التي أراها تكتنف هذه المعادلة، لذا فسوف أترك المجال مفتوحاً أمامكم لتجيبوا عن هذا السؤال: ما الذي كان يخبئه الباب الأيمن: أحسناءُ أم نمر؟

– تمّت –

 

الجدل حول القصّة 

القصة أثارت غضب القراء بشكل كبير وتسببت فى جدل بين الجنسين واسع النطاق، الأنثوات يرون إن المرأة مُضحية بطبعها وتفضل أن ينعم حبيبها فى أحضان فتاة أخرى ويظل عايش على ان يموت وتفقده.

والرجال يرون أن هذا هو طبع المرأة، تفضل أن يمزق حبيبها نمر متوحش على أن يعيش مع امرأة أخرى غيرها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى